من الظل إلى المركز: صعود الأمير بوصفه نبوءة الأب المؤجَّلة
1. نشأة الظاهرة: متى بدأ محمد بن سلمان يصعد؟
حتى منتصف العقد الثاني من الألفية، لم يكن محمد بن سلمان حاضرًا في أيّ تصوّر جدّي لمستقبل الحكم في السعودية. اسمه لم يظهر في التشكيلات الوزارية، ولم يتردد في التحليلات السياسية، ولم يُطرح بوصفه منافسًا حتى في سوق التكهّنات المعتادة داخل العائلة المالكة. شابٌ يافع، الابن السادس للملك سلمان من زوجته فهدة بنت فلاح، ينتمي إلى جيل من أبناء الملوك لا يُعوَّل عليهم إلا بوصفهم ملحقًا بالعائلة لا بصنّاع القرار. بدا كمن يعيش في الظل، يمارس أدوارًا إدارية محدودة في ديوان والده، الذي كان آنذاك أميرًا للرياض، دون أن يلفت الانتباه أو يستدعي الترقّب.
لكن موت الملك عبد الله في يناير 2015 كان أشبه بلحظة اختراق زمني، إذ دخل محمد بن سلمان فجأة من النافذة التي فُتحت على مصراعيها حين ارتقى والده إلى العرش. في غضون أيام قليلة، عُيِّن وزيرًا للدفاع، ورئيسًا للديوان الملكي، ثم انطلقت سلسلة من التعيينات السريعة التي جعلت منه محورًا لدوائر القرار: من المجلس الاقتصادي، إلى الإشراف على ملف أرامكو، ثم إلى كونه العقل المدبّر لرؤية 2030، وكل ذلك وهو لا يزال في الثلاثين من عمره.
كانت تلك قفزة سلطوية بكل ما تعنيه الكلمة من تحطيم لطبقات التدرج التقليدي داخل الدولة-العائلة. لم يتدرج محمد بن سلمان في المناصب الأمنية أو العسكرية أو السياسية كما هو الحال مع أسلافه، بل قفز مباشرة إلى مراكز القوة المطلقة، مدعومًا بإرادة أبيه، ومحاطًا بشبكة صغيرة من المستشارين الشباب. بدا وكأن لحظةً واحدةً بدّلت ترتيب العائلة، لا بقرار جماعي، بل بتفويض فردي، كما لو أن سلمان قرر أن يبدأ من ابنه لا من الدولة.
إن صعود محمد بن سلمان لم يكن وليدًا طبيعيًا لتقاليد آل سعود، بل نقيضًا لها. لقد كسر الهرمية السلسة، وألغى منطقة الوسط، وتسلّق السلم لا درجةً درجة، بل صعد بالمصعد المعطّل ليشغله وحده. وهذا ما يجعل فهم بداياته مفتاحًا لتحليل ممارساته اللاحقة: نحن أمام شخص لم يُربّ على فنون التوازن، بل على شعور مزدوج بالاستحقاق والاختراق، جعله لا يرى في السلطة مجالًا للشراكة، بل ساحةً للتمكين الصريح والقبض المباشر.
2. آل سعود: العائلة بين توازنات الإرث وتمزقات الوراثة
لأكثر من نصف قرن، بُني النظام السعودي على قاعدة غير مكتوبة من التوازن داخل العائلة المالكة. لم تكن السلطة مركزية في يد الملك وحده، بل موزعة ضمنيًا بين أجنحة الأسرة الكبرى، وعلى رأسها "السديريون السبعة"، الذين شكلوا نواة الحكم بعد الملك المؤسس. كانت لكل جناح حصته، ولكل أمير موقعه، ولكل قرار غطاء عائلي يُمرّر عبر تفاهمات وتوازنات دقيقة، تستوعب النزاعات دون أن تسمح لها بالتحوّل إلى صراع مفتوح. العائلة كانت هي الدولة، والدولة كانت واجهتها.
لم يكن الملك يحكم وحده، بل إلى جواره ولي العهد، والنائب الثاني، ووزير الداخلية، ووزير الدفاع، وأمراء المناطق، جميعهم من أبناء عبد العزيز، يتبادلون الأدوار، ويضبطون الإيقاع. كان هذا النظام أقرب إلى مجلس شيوخ مغلق، أو شركة مساهمة يُنتخب فيها المدير التنفيذي من بين كبار المساهمين، لا على قاعدة الأحقية، بل وفق منطق الموازنة والرضا العام داخل الدائرة الحاكمة.
هذا البناء المتماسك بدأ يتصدع مع تراجع أدوار "الإخوة الكبار" ووفاتهم تباعًا، لكن الانهيار الحقيقي حدث حين دخل محمد بن سلمان المشهد. لم يكن الرجل من الحلقات المعتادة، ولا من الجيل الذي يُنتظر منه دور القيادة. لكنه أطاح بهذا النظام دفعة واحدة، لا عبر صدام عسكري أو انشقاق سياسي، بل عبر تمركز بارد ومدروس للسلطة. أخذ مفاتيح القرار واحدة تلو الأخرى، مستخدمًا غطاء الملك سلمان، ومستفيدًا من غياب الجيل الأول من الأمراء، وخمول الجيل الثاني.
في أقل من عامين، أطاح بولي العهد الشرعي محمد بن نايف، وحيّد أبناء عمومته من المناصب الحساسة، ثم أطلق حملة "الريتز كارلتون" التي أعادت توزيع الثروة والولاء بالقوة والتوقيع. لم يُبقِ على أحد من مراكز القوة القديمة، بل أحاط نفسه بطبقة جديدة من الموالين، لا يجمعهم الدم، بل التبعية.
ما فعله محمد بن سلمان هو تفكيك الدولة‑العائلة، وإعادة تشكيلها حول شخصه. لم يعد هناك "جناح سديري" ولا "أبناء فيصل" ولا توازن بين الفروع. هناك فقط رجل واحد، يحتكر السلطة، ويعيد إنتاجها رمزيًا عبر مشاريع رؤية 2030، وواقعيًا عبر الأجهزة الأمنية والمالية.
بهذا التمركز الجديد، انتهت حقبة من الحكم كانت تقوم على فكرة العائلة الممتدة، وبدأت حقبة من الحُكم الفردي، لا تُشبه إلا ما قبل تأسيس الدولة الحديثة. محمد لم يرث النظام، بل ألغى شروط الوراثة ذاتها، وصنع نموذجًا سلطويًا لا ينتظر الإجماع، بل يفرض الطاعة.
3. الملك سلمان: من الإحباط السياسي إلى إنتاج الوريث
من بين أبناء الملك عبد العزيز، كان سلمان بن عبد العزيز أكثرهم انضباطًا وأقلهم حظًا في الترقّي إلى مراكز صناعة القرار العليا. فبينما تقاسم إخوته المناصب السيادية: وزارة الدفاع، وزارة الداخلية، ولاية العهد، ثم العرش نفسه، ظل سلمان حبيس موقعه في إمارة الرياض لأكثر من خمسين عامًا، يدير العاصمة كموظف بارع، لكن دون أن يُمنح مقعدًا على طاولة السياسات العليا.
ما يرويه بعض من عايشوه في تلك المرحلة – من أمثال الدكتور محمد المسعري والدكتور سعد الفقيه – يكشف جانبًا نفسيًا بالغ الحساسية: كان سلمان كثير التبرم مما يراه تهميشًا مقصودًا من إخوته، وعلى رأسهم نايف وسلطان. كان يعتقد أنه أحق منهم، لا فقط بالكفاءة، بل بالحكمة والضبط، وكان يُفسّر إقصاءه باعتباره دليلًا على اعترافهم غير المعلن بأفضليته، وأنهم يتعمدون إبعاده عن المركز كي لا ينازعهم سلطتهم. لم يكن يرى في نفسه أميرًا للعاصمة فقط، بل رجل دولة مؤهلًا لقيادة المملكة، وكان يضيق ذرعًا بمن يُحجمونه في دور إداري ميداني، بعيد عن النواة الصلبة للقرار.
في إمارة الرياض، كرّس سلمان سمعته كأكثر أبناء الملك المؤسس صرامة وانضباطًا في الإدارة. كان دؤوبًا، لا يكلّ عن لقاء شيوخ القبائل، ولا يتردد في متابعة التفاصيل اليومية. سعى إلى إظهار ذاته بوصفه نموذجًا للانضباط والتقنين، كأنما يقول لإخوته الكبار: إن كنتم تشككون في أحقيتي، فدعوا الوقائع تُثبتها. بنى لنفسه هالة من الموظف المتقن، الصارم، المطلع على شؤون الناس والأنساب، حتى وُصف بأنه "دائرة معارف" للمجتمع السعودي.
لكن هذا الانضباط، الذي تحوّل إلى سمة ثابتة، لم يُخفِ غيابًا آخر أكثر جوهرية: القدرة على التفكير السياسي النوعي. لقد أتقن سلمان إدارة الإمارة، لكنه لم يُنتج يومًا رؤية متكاملة، أو يُطرح كمفكر سياسي داخلي. كان دومًا منفّذًا لا مخططًا، حارسًا للبنية لا مهندسًا لها. ولعل إخوته حين أبقوه على هامش المناصب السيادية، لم يفعلوا ذلك تحاملًا فقط، بل بناءً على قراءة داخلية لمحدودية قدرته على صياغة القرار السياسي الأعمق.
حين توفي "أبو شرين" (عميد الأسرة الملكية)، تولّى سلمان مهام تنظيم شؤون العائلة، وأُضيف إلى لقبه صفة "العميد الجديد". لكنّ هذه المسؤولية، التي كانت تتطلّب عدالة رمزية وانضباطًا نزيهًا في إدارة التوازنات بين أبناء الملك، لم تُمارَس من موضع الحكَم، بل من مرآة الذات. لم يكن سلمان عميدًا بقدر ما كان موظفًا كبيرًا يضبط التفاصيل ولا يضبط نفسه، يُدير شؤون الأسرة بما يخدم شعوره الخاص بالاستحقاق، لا بما يضمن عدالة التراتب. ويكفي لتعرف الفرق بين سلمان ومحمد أبو شرين أن الأخير كان يستطيع صفع فهد على علباه وهو ملك، بينما يخسي سلمان يفعل ذلك. (وتوصيف الفرق للمسعري) كان أبو شرين يتمتع برأسمال رمزي يجعله فوق الملوك في لحظة الضرورة، أما سلمان فلم يكن يخرج من جلده، ولا يدخل أي خلاف دون أن يختار فيه نفسه أولًا. وهذه السمة – الغرق في الذات، والانتصار المتأخر، وشعور المرارة المزمن – انتقلت بكامل حمولتها إلى ابنه محمد.
لقد نشأ محمد بن سلمان في ظل أب يشعر بأنه قد عُطّل طويلًا، وأنه لم يُعط ما يستحق، وأن الوقت قد حان لاسترداد ما فاته. وهذه السيكولوجيا، بما تحمله من طموح قسري وتعويض متأخر، شكّلت الإطار النفسي الذي صُنع فيه الابن. لم يرَ محمد نفسه كخليفة بين إخوة متقاربين، بل كمن قُدّر له أن ينفجر في وجه الجميع، تحقيقًا لحلم مؤجَّل زرعه فيه أبٌ عاش نصف عمره حارسًا للحكم، ونصفه الآخر كأنما ينتقم من تأخر التتويج.
بهذا المعنى، لم يكن محمد بن سلمان فقط ثمرة حسابات سياسية، بل ابنًا سيكولوجيًا لخيبة طويلة. لقد ورث طموحًا معقّدًا، لا يرضى بالمشاركة ولا يؤمن بالتدرج، ويختلط فيه الاستحقاق مع العُقدة، والاندفاع مع المرارة. وما فعله محمد في الدولة، لا يمكن فصله عما لم يفعله والده حين كان مجرد "أمير منضبط" ينتظر زمنه في ممرات الإقصاء.
4. محمد بن سلمان بين إخوته: المفاضلة بوصفها اصطفاء
حين نُقل محمد بن سلمان من الظل إلى الضوء، لم يكن وحده ابنًا للملك سلمان. كان له إخوة غيره، من الذكور على الأقل، من أبرزهم خالد، وتركي، وراكان، يتشاركون معه الأم ذاتها أو الأب، وينتمون إلى الدائرة نفسها من القرب العائلي. ومع ذلك، لم يُطرح أيٌّ منهم بوصفه بديلًا محتملاً، أو حتى شريكًا في مشروع الحكم. لم تكن المفاضلة داخلية صامتة، بل كانت اصطفاءً معلنًا، كما لو أن الملك قرّر منذ البداية أن يُسلّم المفاتيح لابنه محمد دون أن يُبقي الباب مواربًا أمام أحد سواه.
محمد لم يكن الأذكى بالضرورة، ولا الأقدم، ولا الأعلى تعليمًا. لم يحمل رتبة عسكرية مرموقة كما خُصّ بها خالد لاحقًا، ولا نال ثقة مؤسسات الدولة كما نالها بعض أبناء عمومته من قبل. لكنه كان الأقرب إلى أبيه، والأشد حضورًا في ديوانه، والأكثر قدرة على ترجمة رغبة الملك في التمركز السياسي ضمن إرادة فردية صارمة. كان يجمع بين الطموح الجارف، والطاعة العمياء، والقدرة على اتخاذ القرارات الحادة دون تردد، وهي صفات رآها سلمان امتدادًا ذاتيًا له، لا صفات مقارنة مع إخوته.
الأب لم يبحث عن شخصية كاملة، بل عن نسخة هجومية منه: منضبطة، ولكن دون عُقد الانتظار؛ جريئة، ولكن دون التورط في التوافقات؛ قاسية، ولكن بوجه الإصلاح. فكان محمد هو هذا الامتداد العنيف للحلم المؤجَّل. إخوة محمد، على اختلافهم، إما لم يظهروا استعدادًا للمواجهة، أو لم يمتلكوا روح التحدي، أو لم تكن لديهم الرغبة في مجاراة سلطة تتطلب من الحاكم أن يكون رجل مرحلة لا رجل مؤسسة.
لكن من منظور تحليلي موضوعي، ما الذي امتلكه محمد فعلًا؟ لقد امتلك شيئًا نادرًا: الاستعداد لأن يكون مركزًا لكل شيء. لم يكن لديه تحفظ تجاه احتكار الملفات، أو القفز فوق البروتوكولات، أو اتخاذ القرارات دون تشاور. لم يراوده قلق من العزلة، بل اختارها. ولم يكن ينتظر توافقًا عائليًا، بل عمل على تفكيك العائلة سياسيًا. في المقابل، إخوة محمد، بما فيهم من يحمل صفات مهنية أو تعليمية أو حتى شخصية أكثر اتزانًا، لم يظهروا هذه النزعة في المبادرة، أو ربما لم يُمنحوا المساحة ليُظهروا شيئًا.
الفارق إذن لم يكن فقط في الكفاءة، بل في تقاطع الرغبة السلطوية عند الابن مع الحاجة الرمزية للتعويض عند الأب. كانت المفاضلة نوعًا من الاصطفاء الرمزي، لا على أساس الخبرة، بل على أساس القدرة على تنفيذ المشروع الأبوي بشكله المكبوت والمتأخر. وهكذا صار محمد بن سلمان ليس فقط "الابن المُختار"، بل "الاختيار نفسه"، والمرآة التي قرر الملك أن يرى نفسه فيها، بعد طول انتظار.
التحليل النفسي لـ (مبس): طموح مضاد، وعنف بارد
1. ابن الظل الذي صعد ليمحو الجميع
لا يُبنى الطغيان على القوة، بل على الخوف. والخوف في حالة محمد بن سلمان لم يأتِ من الخارج، بل من الداخل. من هاويةٍ لا اسم لها، تنبض في قاع الوعي منذ الطفولة: أنا لست مثلهم. نشأ في بيت الحكم لا بوصفه وليًا للنعمة، بل زائرًا دائمًا على المائدة، لا يُحسب ضمن العدّ، ولا يُسمع له صوت. لم يكن الأذكى، ولا الأوسم، ولا الأكاديمي الذي تباهي به الأسرة، ولا العسكري الذي تفتخر به الدولة. كان "الآخر" بين إخوةٍ مجرَّبين، وواجهةٍ مدعومة، ونظام يعرف جيدًا أبناء مَن يريد أن يراهم في القمة.
في مثل هذا التكوين، لا يُطلب من الفتى أن يصعد، بل أن يصمت. لكن محمد قرأ الصمت بوصفه مهانة. وحين تحوّل الأب العجوز إلى بوابة للعرش، وجد فيه الابن المتأهب الفرصة التي لا تُعاد. صعد، لا عبر التمهّل، بل بالاقتحام؛ لا بالتحالف، بل بالإقصاء؛ لا بالإقناع، بل بالاحتكار. لم يرد أن يكون ضمن الأبطال، بل أن يمحو المسرح كله ليبقى وحده في المشهد.
هذا الصعود لم يكن نصرًا، بل ضرورة داخلية: ابن الظل الذي يشعر أن بقاء الآخرين إهانة لحقه الوجودي. فكان كل وجه يظهر إلى جواره يُفهم كتهديد، وكل مؤسسة كقيد، وكل نقد كطعنة. لم يصعد ليحكم، بل ليمحو سيرة غيابه. ولهذا، فإن سلطته لم تُبنَ على مشروع، بل على ثأر، لا ضد شخص بعينه، بل ضد الشعور العتيق بأنه زائد عن الحاجة.
وفي هذا السياق، لم يكن الطموح رغبة في الإنجاز، بل اندفاعة استلحاقية، أقرب إلى "الآن أو لا شيء". هذا ليس طموحًا يُبنى، بل قلقٌ يُفرغ. ليس رؤية تُصاغ، بل فوهة مفتوحة تبتلع الضوء، وتُعيد تشكيل العالم من حولها، حتى لا يبقى شيء يُذكّره بأنه لم يكن يومًا مرئيًّا.
2. حين يصبح العنف هو اللغة الوحيدة للفهم
من يخرج إلى الحكم من عقدة، لا يرى في السلطة تكليفًا، بل سلاحًا. محمد بن سلمان لم يورّث الحكم، بل اقتحمه. لم يأتِ على صهوة التوافق، بل على حافة الترويع. كانت يده أسرع من ظلّه، وقراراته تسبق تفكيره، لا لأنها رشيدة، بل لأنها ضرورة وجودية: إن لم أُبعدهم، سيعودون؛ إن لم أقصِهم، سأعود أنا إلى الظل.
لهذا، لم يكن العنف في مشروعه مجرد خيار من بين أدوات الحكم، بل الأداة التي لا يستقيم النظام إلا بها. من اعتقال الأمراء، إلى تعذيب الناشطات، إلى قتل خاشقجي، إلى سحق المعارضة الناعمة، لم يكن الفعل مدفوعًا بضرورة أمنية، بل بإلحاح نفسي، كأن الرجل لا يرتاح إلا حين يُخرس صوتًا كان من المحتمل أن يقول: "لست وحدك".
هذا العنف ليس انفجارًا لحظيًا، بل نظام حكم مبرمج على البطش الوقائي. لأنه يرى في كل تأخير عن الولاء خطرًا، وفي كل تحفظ مشروعًا بديلًا، وفي كل مبادرة مستقلة إعلان حرب. هو لا يتسامح مع الآخر، لأنه لا يعرف أين ينتهي هو وأين يبدأ غيره. وكلما شعر بالخطر، ضاعف من القمع، لا لأنه يريد تثبيت النظام، بل لأنه لا يحتمل الهشاشة في داخله.
منطق الحكم هنا ليس التوازن بين السلطات، بل منع ظهور أي سلطة سوى سلطته. الدولة لا تُبنى على المؤسسات، بل على امتداد مزاجه الشخصي. وكلما شعر بالتهديد، يصنع مشهدًا صادمًا: اعتقال، تصفية، قرارات مفاجئة، كأن العنف هو اللغة الوحيدة التي يفهم بها العالم ويجبره على الفهم.
وهكذا، يصبح الغضب سياسة، والشك جهازًا، والحذر سلوكًا يوميًا. لا توجد دولة، بل دائرة قلق محكمة الإغلاق، يديرها رجل لا يرى في العدل ميزانًا، بل في الطاعة خلاصًا.
3. لا دولة خارج صورته، ولا مستقبل يطيق خروجه منها
حين يصبح الحاكم هو النظام، ينتهي الزمن. لا يعود هناك مستقبل يُصاغ عبر مؤسسات، بل مرايا تُنظَّف يوميًّا ليُرى فيها وجهه أكثر نقاءً. محمد بن سلمان لم يصنع جهازًا يُحتكم إليه، بل دائرةً مغلقة لا تُخاطب إلا بالصدى. كل ما في البلاد صار يُدار من خلال انعكاسه، من مشهد الاقتصاد حتى نبرة المذيعين، من سياسة الترفيه حتى خرائط التحالفات الخارجية. لا أحد يُقدِّم رؤية، بل الجميع يعرض ولاءه بوصفه اقتراحًا للنجاة.
في هذه السيكولوجيا الانعزالية، لا يوجد "آخر" يُتفاوض معه، بل احتمالات للخيانة تُجهَض قبل أن تُفكر. المؤسسات لا تستقل، بل تُفرَّغ من مضمونها. الوزراء يُبدَّلون كما تُبدَّل أزرار الثوب، والخطط لا تُبنى لتُنفَّذ، بل لتُعلَّق على جدران الرؤية كأيقونات حداثية. والكلُّ يُذكَّر دائمًا أن الدولة لا تعمل بدونه، وأن الخيال الوطني لا يكتمل إلا بوجود توقيعه أسفل اللوحة.
لكن هذه الفردانية القصوى لا تصنع استقرارًا، بل تؤسس لفراغ مخيف: ماذا لو اختفى؟ من يحكم؟ كيف نعيد تشغيل النظام وقد تم تفصيله على مقاس رجل واحد لا يسمح لأحد أن يكون؟ تلك هي المعضلة التي لا يراها إلا الحاكم الذي يُدرك – في أعماقه – أن كل ما بناه يمكن أن ينهار لو تلعثم، أو تأخر، أو أخطأ. فليست سلطته مبنية على مؤسسات ذاتية الدفع، بل على سطوته الفورية التي لا تحتمل الهزّ.
وهكذا، يُغلق النظام على نفسه: لا معارضة، لا صحافة، لا نقد، لا إصلاح، لا حتى نقاش داخلي جاد. كل شيء مؤقت ومُدار من فوق. والمؤقت، كما يُقال، لا يدوم.
إن محمد بن سلمان لا يفشل لأنه أخطأ، بل لأنه لا يستطيع التعلُّم. لا ينهار لأن خصومه أقوياء، بل لأن نظامه لا يتحمل التردد. هو لا يرى الفرق بين نفسه والدولة، وإذا تزعزعت صورته، تزعزع كل شيء.
لهذا، فإن الفشل عنده ليس احتمالًا سياسيًا، بل نهاية نفسية. وكل لحظة تستمر فيها سلطته، ليست دليلًا على نجاحه، بل على عمق الفراغ الذي خلّفه من حوله. رجلٌ لا يعرف كيف يُنقذ إلا نفسه، لكنه لا يعرف كيف ينجو منها.
الهالة السلطوية: صورة الزعيم بين التصنيع والتكرار
1. الهالة كصورة مصنَّعة: من البورتريه إلى البروباغندا
لم تكن صورة محمد بن سلمان نابعة من الواقع، بل سبقت الواقع وصاغته. تشكّلت صورته في البداية خارج البلاد، في مختبرات الإعلام الغربي، حيث تجيد المراكز البحثية والصحافية تحويل القادة إلى بورتريهات قابلة للتسويق: شابّ طموح، صارم، إصلاحي، يحب التكنولوجيا، يقرأ ما بعد النفط، ويتحدث لغة "العصر الجديد". بدا وكأنهم عثروا أخيرًا على نسخة مطوّرة من "بن علي مع وادي سيليكون"، أو "حسن مبارك يوقّع اتفاقيات استثمار في نيوم".
هذه الصورة لم تُترك للتطور الطبيعي، بل صُمّمت بعناية وفق بنية استشراقية قديمة: الشرق المتخلف يحتاج بطلاً يأتي من قلب الرمل، ينفض الغبار عن العقل، ويقود القافلة نحو التحديث. محمد بن سلمان قُدِّم كـ"البطل الخارج من الصحراء"، الذي لم تفسده الحداثة، لكنه يسخّرها، لم يغادر الجذور، لكنه يكتب بلغة الغد. رجلٌ بكوفية، ولكن برؤية. محافظ المظهر، ليبرالي النوايا. يستشهد بآيات القرآن في مؤتمرات الأسهم، ويوقّع على قوانين الترفيه في جلسات مغلقة مع المستثمرين الغربيين.
الداخل لم يُبدِ مقاومة، بل انخرط في هذا السيناريو بكل طبقاته. الإعلام السعودي تبنّى السردية كما هي، وبدأت الصحف تتحدث عن الأمير بوصفه "صانع التحول"، "مهندس الرؤية"، "الملهم الأول"، وأصبح الترفيه امتدادًا للمشهد، لا كحق مجتمعي، بل كمنحة سلطوية. حتى التعليم – الذي طالما تحصّن بالتقليد – دخل نفق إعادة الهيكلة الرمزية، فصارت الوطنية تُقاس بمدى الانخراط في البروباغندا البصرية.
لكن الأهم ليس في الكيف، بل في الكم. التكرار هو جوهر تثبيت الزعامة: تكرار الصورة، الشعارات، المصطلحات، الصيحات، المشاهد. لا يكفي أن تُرى، بل أن تُرى كل يوم. لا يكفي أن تُمدَح، بل أن تُعاد صياغتك بوصفك المصدر الوحيد للنجاة. فالهالة لم تكن دعاية، بل كانت جهاز إنتاج رمزي يومي، يُعيد قولبة الوعي على إيقاع الزعيم.
وهكذا، لا يعود محمد بن سلمان مجرد رجل دولة، بل يصبح نسخة مرئية من "قدر لا يمكن الفرار منه"، ويُعاد تدوير صورته كما يُعاد تدوير العملة: لا لأن قيمتها حقيقية، بل لأن النظام كله يعتمد على استمرار وهمها.
2. صناعة الإجماع: حين تصبح الصورة أداة قهر
ليست الهالة مجرّد تمجيد لشخص الحاكم، بل وسيلة قهر حديثة، تتسلل عبر البصر وتستقر في الوجدان. إنها الآلة التي تُعيد تشكيل المجال العام دون أن تطلق رصاصة واحدة. ما تفعله الديكتاتوريات التقليدية بالمنع والقمع، تفعله الهالة السلطوية بالتكرار والإبهار والارتباك. الطاعة هنا لا تُفرض من الخارج، بل تُصاغ في الداخل: في الوعي، في الخيال، في العجز عن تخيّل بديل.
صناعة هذا النوع من الإجماع لا تتم عبر خطاب أيديولوجي مباشر، بل من خلال ثلاثية هيمنة شديدة الأناقة، وشديدة العنف في آنٍ معًا:
أولًا، الإبهار البصري: مشاريع عملاقة، مؤتمرات دولية، مشاهد مصوّرة بإتقان سينمائي، من "نيوم" إلى "ذا لاين" إلى المؤتمرات التي يظهر فيها الزعيم كأنه جزء من ديكور مستقبلي. الصورة ليست توثيقًا لما يحدث، بل هي ما يحدث. كل شيء مُعدّ ليُرى كما يجب أن يُرى، لا كما هو.
ثانيًا، الصدمة السلطوية: قرارات تُلقى فجأة، دون تمهيد، دون نقاش عام، ودون إبطاء. من اعتقالات جماعية إلى تفكيك مؤسسات دينية، ومن إصلاحات اقتصادية إلى انفتاحات اجتماعية. كل صدمة تعيد تنظيم الانتباه، وتحوّل الارتباك إلى انبهار، أو إلى صمت. يصبح الناس غير قادرين على التفسير، لأن التفسير ذاته لم يعد مطلوبًا، بل المتابعة والانفعال.
ثالثًا، احتكار المستقبل: "رؤية 2030" ليست خطة اقتصادية بقدر ما هي نبوءة. كل طريق، كل وظيفة، كل أمل مرهون بها. لا مشاريع خارجها، ولا أفق بدونها. من لا ينخرط في الرؤية، يُعدُّ متخلفًا عن الركب. حتى الحلم صار محصورًا في قوالب جاهزة، وكل مشروع شخصي يجب أن يتلو "الرؤية" كما تُتلى الشهادة.
في ظل هذه المنظومة، يصبح غياب النقد أمرًا طبيعيًا. بل إن مجرد الرغبة في الفهم تُترجم كريبة، وكأن السؤال نفسه صار خطرًا. لا أحد يفسّر، لأن التفسير لم يعد ممكنًا. ما يجري ليس سياسة يمكن تحليلها، بل عرض دائم يُراد له أن يكون ساحرًا وغامضًا في الوقت نفسه.
وهكذا، تتشكل الطاعة لا من القمع الصريح، بل من الخيال المروض. لا أحد يأمر الناس بأن يطيعوا، لأنهم أصبحوا لا يتصورون شيئًا آخر يُمكن أن يُطاع.
3. تفكيك الهالة: لماذا يجب أن نرى الزعيم كفاعل لا كرمز؟
الصورة ليست محايدة، ولا بريئة، ولا عفوية. إنها سياسة، بل أداة من أدواتها الأكثر فتكًا. حين يُحوَّل الزعيم إلى رمز، يُصبح فوق النقد، خارج التفسير، محصنًا ضد المحاسبة، وكأن وجوده بذاته يكفي لتبرير كل ما يقع تحت ظله. لكن الزعيم ليس صورة، بل فاعل. شخص يُقرِّر، يختار، يخطئ، ويتسبب – بقراراته – في نتائج محسوسة تطال الناس والمؤسسات والمستقبل. وأي قراءة تُبقيه في منطقة الرمز، إنما تُعفيه من المسؤولية.
نزع الهالة ليس عملًا أخلاقيًا فحسب، بل فعل سياسي ضروري. إنه الخطوة الأولى لفهم كيف تُدار السلطة فعليًا، لا كيف تُقدَّم. الهالة تُخفي أكثر مما تُظهر، وتُنتج ولاءً زائفًا قائمًا على السحر البصري لا على التعاقد الاجتماعي. وهي تخدم مصالح واضحة: تصنع مركزًا بلا تفويض، وتُحرس عبر شبكة من التكرار، وتُقصى بسببها أصوات كانت قادرة على تقديم بدائل أو نقد عقلاني.
في قلب هذا القهر الناعم تكمن أسئلة لا بد أن تُطرح:
من يصنع هذه الصورة؟
من يُدير تمثيل الزعيم على هذا النحو؟
من يحرسه من المساءلة؟
من يُقصى من المجال العام كي تبقى الصورة نقية، مرتفعة، بلا شقوق؟
حين تتحول الدولة إلى مرآة فرد، يُمحى المجتمع بوصفه كائنًا تاريخيًّا حيًّا. كل ما يُرى هو انعكاس لذلك الفرد، وكل ما يُقال هو صدًى لابتسامته، وكل ما يُفعل هو توطيد لصورته. يصبح الناس مجرد جمهور في مسرح، لا رعايا في دولة. ويغدو الوطن كله مشروع ظلّ، لا واقعًا مشتركًا.
إن تفكيك الهالة ليس تهديمًا لصورة الزعيم، بل استعادةٌ لصوت المجتمع. لأن الزعيم إذا لم يُرَ بوصفه فاعلًا بشريًا، سيبقى دائمًا فوق الخطأ، وحينها فقط، يبدأ سقوط السياسة.
إعادة تشكيل السلطة: من الانقلاب الداخلي إلى مشروع الاستحواذ الكامل
1. الانقلاب البنيوي: من العائلة إلى الفرد
حين أُزيح محمد بن نايف من ولاية العهد، لم يكن الحدث مجرد "تعديل ملكي"، بل لحظة قطيعة بنيوية مع نظام الحكم العائلي الذي ميّز المملكة منذ نشأتها الحديثة. كانت تلك اللحظة إعلانًا لنهاية مبدأ التوافق بين أجنحة آل سعود، وبداية عهد جديد تُدار فيه الدولة من مركز واحد، لا يُشاوره أحد، ولا يُراقبه أحد، ولا يُحتمل أن يُخالفه أحد.
ما تبع ذلك كان أوضح من أن يُخفى: حملة "الريتز" التي قُدّمت بلباس "مكافحة الفساد"، لم تكن إلا مسرحية استعراضية لتصفية النفوذ القديم، وإعادة تشكيل طبقة الولاء وفق الشروط الجديدة للزعيم الفرد. لم يكن الهدف فقط إسكات الأمراء والتجار، بل تحويلهم من لاعبين إلى خاضعين، ومن منافسين محتملين إلى شهود زور على مرحلة الاستحواذ.
تم إلغاء ما كان يُعرف ضمنيًا بـ"السلطة الجماعية"، تلك التي كانت تُدار من خلال توزيع المناصب، وتحالف الأجنحة، وتوازن العلاقات بين أبناء المؤسس. فجأة، لم يعد هناك أجنحة. لا جناح السديريين، ولا أبناء فيصل، ولا أبناء عبد الله. كل الأجنحة قُصّت، وبقي في الساحة جناح واحد يصفّق.
احتُكرت مفاصل الدولة المركزية: الديوان، الدفاع، الأمن، الاقتصاد، النفط، الإعلام، التعليم، المشاريع الكبرى... كلها باتت تمر من يد واحدة. لا وزير يقرّر، ولا هيئة تفكر، ولا مجلس يُناقش. الجميع ينتظر التعليمات. لقد تحوّلت الدولة من شبكة بيروقراطية إلى سلسلة من الأوامر التنفيذية، يصدرها الزعيم وترددها مؤسسات مصابة بالخَرَس المؤسسي.
وهكذا، لم يعد محمد بن سلمان مجرد "ولي عهد"، بل أصبح هو النظام. لم يُلغِ المؤسسات شكليًا، بل أفرغها من الداخل، ثم أعاد ملأها بأشخاص يدينون له بالولاء لا بالكفاءة، ويرفعون له التقارير لا الآراء، وينفذون ما يُطلب منهم دون أن يعرفوا لماذا. لقد انتقل الحكم من "الدولة العائلة" إلى "الدولة الفرد"، ومن حكم التوازن إلى حكم الهيمنة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الرجل الذي لا يُخطئ، لأنه ببساطة لا يُسمَح لأحد بأن يُصحّحه.
2. الاستحواذ الرمزي والسياسي: حين يصبح الزعيم هو الدولة
في الأنظمة السلطوية التقليدية، يحتكر الحاكم الحاضر، يقرّر ما يجب فعله الآن. أما في نموذج محمد بن سلمان، فإن الاحتكار لا يكتفي بالحاضر، بل يمتد إلى المستقبل. "رؤية 2030" ليست مجرد خطة إصلاح أو برنامج اقتصادي – كما تسوّق – بل مشروع احتكار شامل للزمن السياسي: لا يمكن تخيّل الغد إلا من خلال عدسة الزعيم، ولا يُتاح لأحد أن يقترح مسارًا آخر، لأن المستقبل ذاته صار مرهونًا بشخصه، مؤطَّرًا بلقبه، مروّجًا له على أنه منبع الخلاص ومصدر النجاة.
هذا التمركز الرمزي لم يأتِ على هيئة خطاب، بل كآلية شاملة لإعادة إنتاج الواقع. الاقتصاد لم يعد حقلًا تنافسيًا أو مساحة لمبادرات مستقلة، بل ساحة خاضعة بالكامل لمزاج "الرؤية". من الشركات الكبرى إلى البنوك إلى المستثمرين، الكل يتعامل مع الدولة بوصفها امتدادًا لرغبة الزعيم، لا لمصلحة عامة. أما الدين، فقد فُكِّك من موقعه التقليدي، وأُعيد تركيبه ليخدم سردية التحديث السلطوي: رجال الدين الذين لا يوافقون يُقصَون، ومن يوافقون يُعاد تأثيثهم في هيئات "الاعتدال".
الإعلام تحوّل إلى جهاز بروباغندا متفرغ لتضخيم المبادرات، وتجميل كل قرار، وملاحقة كل ارتباك بالإنكار أو الصمت. التعليم، بدوره، يخضع لإعادة هيكلة رمزية، لا بهدف ترسيخ التفكير، بل بهدف توليد أجيال لا تتخيل بلادها دون صورة الزعيم في الكتب والشاشات.
وفي هذا السياق، لم تعد التعددية خطأً، بل جريمة. جُفِّف المجال العام، وأُغلقت المسارات الوسيطة بين الدولة والمجتمع. لا صحافة مستقلة، لا أحزاب، لا نقابات، لا تمثيل سياسي حقيقي. المواطن لم يعد فاعلًا، بل متلقٍ. كل صوت خارج السرب يُعد تهديدًا. كل مبادرة غير مركزية تُفهم كمنازعة. كل اختلاف يُقابل إما بالإلغاء أو بالتخوين.
وهكذا، لم يعد محمد بن سلمان رأس النظام، بل صار جسده كلّه. هو المشروع، وهو الرؤية، وهو الراعي، وهو المحاسب. الدولة لم تعد بنية تفصل بين الأشخاص والمواقع، بل تحوّلت إلى مساحة تتحرك فيها إرادة فرد واحد، يرى في ذاته تجسيدًا للأمة، وفي كل اختلاف معه انقسامًا عنها.
هذه ليست ديكتاتورية كلاسيكية، بل حالة امتصاص كلي للسياسة في شخص واحد، يُقال له كل شيء، ويُمنع الجميع من قول أي شيء سواه.
خاتمة: بذور الانحلال المزروعة في لحظة الظهور
من ينظر في ملامح محمد بن سلمان لا يرى أمامه مشروعًا صلبًا يتكئ على قاعدة ثابتة أو فكرة كبرى، بل يرى شبحًا سياسيًا صعد من هشاشةٍ داخلية، وارتفع على سطح دولة أُفرغت من أهلها، واحتُشدت بالرؤية بدل البصيرة، بالولاء بدل الحوار، وبالجبن بدل التمثيل.
ما يبدو صلبًا في هذه الشخصية ليس إلا نُتوءًا عدميًّا يغطي خواءً روحيًا، وعجزًا وجوديًا عن التوازن. شخصية تحمل في ذاتها كل علامات التآكل: اندفاعٌ بلا وعي، سلطة بلا شرعية، طموح بلا ضوابط، مركزية بلا مؤسسات، وعزلةٌ تتضخّم كلما ادّعت الانفتاح. بل يمكن القول، إن هذه الشخصية لم تصعد إلا وفي نواتها ما يجعل سقوطها حتميًّا؛ فبذور الانحلال كانت مزروعة في لحظة الظهور ذاتها. لم تكن الهشاشة طارئة، بل أصلًا من أصول التكوين، والبذرة التي لم تُروَ بالعقل، لا تثمر إلا فسادًا في الشجرة.
وما يُبقي محمد بن سلمان ظاهرًا حتى الآن ليس ما فيه من عناصر البقاء، بل ما حوله من عوامل عرضية ومؤقتة. إنه قائم على دعم خارجي، لا على جذور داخلية. وليس أدل على ذلك من أن الدولة السعودية الحديثة نفسها قامت على اتفاقيات لا علاقة لها بالإجماع الشعبي، بل بالإذعان الجيوسياسي. فقد وقّع جدّه عبد العزيز اتفاقية دارين سنة 1915 مع البريطانيين، واضعًا نفسه تحت الحماية مقابل الاعتراف. ثم جاء اللقاء الأشهر مع الرئيس الأمريكي روزفلت على ظهر البارجة كوينسي عام 1945، وهو اللقاء الذي لا نعرف عنه شيئًا موثقًا بدقة، لا من وثائق أمريكية رسمية، ولا من شهادات متكاملة، بل جلّ ما يُعرف من كلام عام منسوب لمترجم اللقاء – مترجم روزفلت – الذي كان معهما على السفينة.
وإذا كانت تلك اللحظة قد دشّنت مرحلة التبعية النفطية في مقابل بقاء الحكم، فإن ابن سلمان ما زال يتحرك داخل نفس الفلك، وإن بدا أنه يلبسه ثياب التحديث، والتقنية، والتنوّع الاقتصادي. الحقيقة أنه لم يخرج من إطار الصفقة، وإنما ضاعف رهانها: الاستمرار بأي ثمن، ولو على حساب المجتمع، ولو بتجريف السياسة، ولو بإلغاء الفكرة من أساسها.
وواقع هذا الشعب الذي جُرِّد من أدوات التخيّل السياسي، بعد عقود من التجهيل المتعمَّد، هو ما يجعل تلك الهشاشة قابلة للتضخم. فالعلاقة بين آل سعود والناس لم تكن يومًا تعاقدًا ناضجًا، بل سلسلة من الخيانات المتكررة. حتى ابن سعود نفسه لم يثبت على ما وعد به، فكيف يُنتظر من أبنائه أن يثبتوا؟ كم من وعد أُطلق، ثم دُفن؟ كم من ميثاق أُعلن، ثم نُقض؟ أكثر من أن تُحصى، وأكثر من أن تُغفر.
وإن كنا في هذا المقال قد وقفنا عند ظاهرة محمد بن سلمان من مدخل التكوين والحكم والصورة، فإن ما بقي من الوعود المهدرَة، والخيانات المؤجّلة، والانهيارات المؤكّدة، هو ما يستحق أن نقف عليه لاحقًا. لأن القصة لم تبدأ به، لكنها – على الأرجح – ستنتهي فيه.
من لم يقرأ على جبين ابن سلمان كلمة "هطف" من أول وهلة، فعليه ألا يتمنى لقاء الدجال، لأنه - غالبًا- لن يقرأ على جبينه كلمة "كافر".