يصف العديد من الناس أن السياسة قذرة ولا أخلاق فيها، وأن السياسة هي فن الممكن والمتاح، ولهذا من هذا المنطلق يشرعون أي فعل بغض النظر عن عدالته أو ضرره أو نفعه. المهم أن يفعل السياسي ما يرد تحت بند السياسة هي فعل المصالح وتحقيق المكتسبات بغض النظر عن طبيعة السلوك. على سبيل المثال، من الممكن لدى هذا الاتجاه أن يتحالف مع نظام احتلالي مدان بجرائم حرب لأجل شراء منتجات تقنية عالية الدقة في مجال معين. أنصار هذا الخط يرون أنه ممكن وأنه حق طبيعي، فالشراء والعلاقات التجارية لا تعني الاعتراف على حد زعمهم. والمواقف والأمثلة كثيرة في واقعنا العربي. ومن أهم الأمثلة هي معركتنا مع الاستبداد، حيث إن مقاومة الاستبداد هي عمل أخلاقي بالمقام الأول، الاستبداد يقوم بسلوكيات كثيرة لا حصر مثل القتل، التعذيب، الحرمان، التهجير القسري، السيطرة على حرية التعبير والصحافة، وقس على هذه المحرمات التي لا حصر لها في عالمنا العربي.
التناقض المراد فهمه في هذا المقال هو فقدان البوصلة الأخلاقية في السعي للعدالة والديمقراطية. على سبيل المثال منذ ١٥ عشر سنة من اندلاع الثورات العربية، حارب العديد من الشجعان والأبطال أنظمة مستبدة، وظالمة وأنها منتهكة للأبسط حقوق الإنسان، مع الوقت تبدلت هذه الأنظمة وانهارت أنظمة الاستبداد القديم وتشكلت أنظمة جديدة خرجت من التدافع والتراكم الثوري الشعبي. وصلت هذه الأنظمة للسلطة، لكن عند وصولها وتمكنها من مفاصل الحكم تغير سلوكها فأضحت تمنع وتحجب وتعاقب وتلاحق وتشرعن سلوكها بقوانين جائرة. والحالة السورية ربما في هذا الطريق. السؤال لماذا كان سلوك الحكومة المستبدة الماضية مدان واليوم نفس السلوك لكن لدى الحكومة الجديدة غير مدان؟ القيمة الأساسية ليس نقد نظام بعينه، بل القيمة الأساسية هي محاربة سلوك محدد. فالقتل والتعذيب مدان مهما كان فاعله.
مثل أقرب من واقعنا المحلي، فمحمد بن سلمان مدرسة في التناقضات القيمية، يروج الإعلام الحكومي والتابع أن محمد بن سلمان نجح في رفع العقوبات عن سوريا الجديدة، يرى البعض هذا انتصار للدبلوماسية السعودية، ويجبر العالم على التصفيق لهذه الخطوة. وكأن هذه الخطوة تمحوا جرائم الاستبداد التي لا حصر لها. فالأنظمة المستبدة تصل لمرحلة تحتاج أن تفعل شيء حتى تحسن صورتها المعنوية لدى العالم. فهتلر على سبيل المثال في بداية طغيانه السياسي وإنفراده بالحكم، استضاف الألعاب الشتوية وأذهل العالم بحسن التخطيط والاستضافة. هذه الخطوة لا تلغي أن هذا النظام طاغية ومجرم حيث بعد الألعاب الشتوية الأولمبية بدأت حقبة سوداء في التاريخ البشري لا يوازيها إلا ما يحدث اليوم في غزة.
فعل سلوك الاستبداد لتحقيق نجاحات في ملفات معينة لا يلغي طبيعة سلوكه ولا يدعم غض الطرف عن جرائمه، حيث الجريمة تبقى جريمة، فضلاً عن معرفتنا أن هذا السلوك مدروس من قبل الأنظمة المستبدة، فمحمد بن سلمان حاول طوال الأشهر الماضية برعاية أمريكية عقد اجتماع ينهي الحرب الروسية الأوكرانية، لأجل ماذا؟ لأجل تحسين صورته الاستبدادية، لم تنجح. ولا أستبعد أن يرعى مبس في قادم الأيام اتفاق بين حماس والصهاينة ينهي حرب الإبادة. لأن هذا السلوك من الأنظمة المستبدة أساسي في طبيعته. فهو يسعى بشكل مستمر أن يظهر بمظهر داعية السلام والحوار والدولة المؤثرة في ميزان القوى، وهو يقوم في الوقت ذاته بالقمع والقتل والتصفية والفساد المالي وتبديد المال العام دون قدرة المواطنين على الحد منها أو حتى الإشارة لها.
الأخلاق أولاً بمعنى أن هذا السلوك مرفوض ومدان بغض النظر عن فاعله، الأخلاق أولاً تعني أن العدالة على جميع خصومي قبل حلفائي، والديمقراطية ليست ممارسة انتقائية وليس هي المكر والخديعة، بل هي الوضوح والصدق مع المجتمع. من يكذب ويتعاطى الكذب بوصفه تمويه ولعبه سياسية لن يصمد في واقع السياسة الأخلاقية. والرهان على الأخلاق والصدق وليس على التضليل. الحياة بوصفها معركة أخلاقية بالمقام الأول تدفع الإنسان للانحياز لما هو لصالح الإنسان بالمقام الأول وليس لصالح كيانات سياسية براغماتية نفعيه تتكسب من خلف معارك دبلوماسية وأحداث محددة. الانحياز للإنسان والصدق معه هي جوهرة العمل السياسي أولاً وأخيراً.