مقالات

ترجّل الفارس الشريف عن صهوة الحياة

الكاتب/ة خلود العنزي | تاريخ النشر:2025-08-12

تتزاحم الأفكار في عقلي، والغصات ملأت صدري وتفاقمت، منذ أن وعيت هذه الحياة الدنيا والواقع الأليم لفلسطين لا يبرح واقعنا ممتداً لغزة، من قبل ومن بعد السابع من اكتوبر 2023 حتى اللحظة. 

لست بصدد كتابة مقال، بقدر ما هي محاولة لهدم جبال الهموم والغضب والحزن والقهر المتراكم منذ زمن بعيد وصولاً إلى استشهاد الأبرياء المجوعين والصحفيين كأنس الشريف ومحمد قريقع وغيرهم تقبلهم الله، محاولة لاستيعاب الفاجعة، لم أستطع بعد كغيري تجاوز مشهد المجازر التي ارتكبها الكيان الصهيوني وما فتئ. 
عندما تلقيت نبأ اغتيال أنس الشريف وغيره من الأبطال من قِبل الاحتلال الإسرائيلي حلّ الضيق والكدر أكثر مما كان، كان أنس الشريف صوتاً للحق والحقيقة، صوتاً أبحث عنه كلما أشرقت علينا شمس الحياة يوماً بعد يوم، صوتاً عاش مع كل حُر يبحث عن الحقيقة التي كلما نجح الكيان الصهيوني في اغتيال صوتها قيض الله لنا وللعالم من يواصل المسير في هذا الطريق الذي لا يسلكه سوى الأبطال الأشاوس كأنس الشريف ورفاقه من قبل ومن بعد، ووجوهنا تشي بالحزن والكمد، نحن الذين نقف مع فلسطين عامة وغزة خاصة. 
الشريف أنس  الذي لم يكن له سلاحاً سوى صوته وعدسة الكاميرا الذين وثق بهما جرائم الكيان الصهيوني، الذي استهدف أنس ورفاقه في خيمتهم، صوت أنس الذي فضح جرائمهم وفند قصصهم المزيفة أقض مضاجعهم حتى بات هدفاً لصواريخهم التي لم تضل طريقها. 
أنس الذي نقل الحدث بكل جراحه وشاهد أشلاء الشهداء جوعاً وقصفاً، أنس الذي كان مجوعاً كغيره من الغزيين، أنس الذي أنهكته هذه الأحداث العِظام لم يتهاون أو ييأس وإنما كما قال " راح أضل أصرخ لآخر نفس 
حتى يصحوا العالم من سباته " -التغطية مستمرة- 
هاهو الفارس الشريف ترجّل عن صهوة الحياة بعدما ظل حتى النفس الأخير كما وعد يوثق جرائم المحتل، وأدى الرسالة وأكثر حتى وإن لم يستيقظ العالم من سباته بعد، يستيقظ ولو بعد حين، والقصة لم تنتهي بعد.
حتى وإن غادرنا أنس جسداً، روحه باقية وصيته وصوته خالدان شاهدان على بشاعة جرائم الكيان الصهيوني وخذلان من خذل غزة وأهلها. 
قد نلت الشهادة يا أنس أنت ورفاقك، فهنيئاً لكم هذا التتويج الذي يليق بكم وبهممكم وشجاعتكم التي تحدثت نيابة عنكم.
ونحن حقاً كالجسد الواحد، هذا الهم والمصاب هو همنا وسعادة أصغر طفل في غزة هي سعادتنا أيضاً.  
 
استوقفني الوادي الذي أهيم به وبقية الوديان التي يهيم بها مدعيّ الثقافة الذين حرموا أنفسهم من امتطاء جياد الهمم العالية ومعالي الأمور، وحرّموا مصطلحات النضال والحريات على ولوج قواميس كلماتهم، في الوقت الذي يرثي فيه الناس أنس ويبكونه ، كانوا أصحاب هذا الوادِ يغردون في عالم الحياة الوردية، وذلك الوادي الذي يرتاده المتقوقعين على ذواتهم حفاظاً على نفسياتهم وسلامهم الداخلي، وذلك الوادي الذي يعيش به معشر المثبطين والمتواطئين الذي خذلوا غزة وأهلها عندما أرادتهم أن يعير معاناتهم ومأساتهم سمعها، أما المتصهينين فهم أعداء الإنسانية ولا وزن لهم في هذا العالم الحُر. 

رحت أتساءل أما من رادع لهذا الكيان، أما من محاسبة وعقاب على هذه الجرائم التي جابت أنحاء العالم بضجيج وحشيتها، فلم تجعل لتكذيبها فرصة! أما من أفعالاً جادة من قِبل الحكام الذين يسكنون بجوار غزة! أما أخجلتهم تلك الدماء الطاهرة التي روت ارض غزة، أما شعروا بالخزي عندما ينظرون إلى ذواتهم في المرآة وعندما يتحلقون أمام موائد الطعام الفاخرة من المجوعين في غزة الذين ارتقوا واحدًا تلو الآخر. 
السلطات السعودية خنقت كل صوت يفكر بأن يهتف لغزة، وتواصل تضخيم الافراح والترفيه بلا حياء وكأنه أهلنا في غزة بخير! حتى غُيب الشعب واعتاد أغلبه الصمت والاكتفاء بالحوقلة والانصراف إلى ماهو أدنى، وبقية دول الجوار المطبعة مع الكيان الصهيوني ليست عن السعودية ببعيد، كالامارات والبحرين، بينما مصر وقعت أكبر صفقة غاز بتاريخها مع الكيان الصهيوني بقيمة 35 مليار $ إلى عام 2040 رغم أنها كانت هي المصدرة! والمساعدات التي من المفترض أن تصل للمجوعين في غزة بقت عالقة خوفاً وخذلاناً وتواطئاً. 
جميعهم ترهق وجوههم ذُلة يبصرها أهل الضمائر الحيّة. 

لكن لا يجب علينا أن نصمت، بوسعنا ان نكتب وننشر ونرسم ونفضح جرائم الكيان الصهيوني وأن لا ننسى المقاطعة والمظاهرات، وأن لا ننسى وصية الشهيد البطل أنس الشريف الذي عاش الألم بكل تفاصيله وذاق الوجع والفقد مراراً عندما أوصانا بفلسطين درةَ تاجِ المسلمين، ونبضَ قلبِ كلِّ حرٍّ في هذا العالم. وأوصانا ألّا تُسكتنا القيود، ولا تُقعِدنا الحدود، وان نكون جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمسُ الكرامة والحرية على فلسطين. 
أنس الشريف قصة بطل حفر في قلوبنا عميقاً، أنس الشريف يستعصي على النسيان.