في زمن السقوط: حين يصمت المغلوب، ويتماهى الطغاة مع الهزيمة
قراءة في أخلاق الصمت، وانحدار الشرعية الخليجية بين واشنطن وتل أبيب
مدخل: ثمن المواقف في زمن الانكشاف
في لحظاتٍ قليلة من التاريخ، تنكشف المواقف على حقيقتها، لا كاختياراتٍ سياسية، بل كأوزانٍ أخلاقية.
حين تكون الدماء في العلن، والعدوان يُبثُّ على الهواء، والظلم يلبس بدلة رسمية ويخطب في المحافل، فإنَّ كلَّ موقف يُتخذ أو يُترك، يصبح ثمنه من رصيد الكرامة الإنسانية لا من الحساب السياسي فقط.
هذه اللحظات لا تحتمل الحياد. لأن الحياد فيها ليس موقفًا، بل انسحاب من الإنسانية نفسها.
ومن يظن أن السكوت يُنقذه، لا يعلم أن الصمت في وجه القتل هو انحياز ضمني للقاتل، وأن الشر لا ينتصر فقط بأفعال الطغاة، بل بسكوت البسطاء.
لكن الأمر، للأسف، لا يقتصر على السكوت. ما نراه اليوم لم يعد صمتًا، بل تواطؤًا واضحًا، تُرتَّب له بيانات، وتُفتح له شاشات، ويُعمَّم كنمط حياة.
في المجتمعات المغلوبة على أمرها، حيث لا ظهير للحق ولا سند، يسهل على كثير من الأفراد – خصوصًا من ذوي النفوس الهشّة – أن يتماهوا مع القوي، حتى لو كان قاتلًا.
والمقصود بالقوي هنا، ليس فقط ذلك العدو الخارجي المفضوح، بل الطغم الفاسدة التي تسلطت علينا من الداخل، فقهرتنا، واحتقرت شعوبها، وأظهرت ضعفها كأنه قدر، وهوانها كأنه دهاء.
لكن هذا التماهي ليس دائمًا خيانة واعية، بل هو أحيانًا سلوك دفاعي ينشأ في المجتمعات المقهورة، حين يشعر الإنسان أن لا مكان آمن إلا قرب الجلاد.
يعيش الفرد في هذه البيئات، لا على وعيٍ حُر، بل على هامش الخوف، والخشية، وغريزة النجاة الفردية.
فلا يُبنى الضمير، بل يُستعار من الأعلى.
ولا تُصنع القيم، بل تُقلَّد من سلطةٍ لا تُناقَش.
ولذلك، حين يتماهى بعض الناس مع خطاب الطغيان، أو يرددون مفرداته، فغالبًا لا يفعلون ذلك عن اقتناع عميق، بل عن تطبع داخلي، وتَعوُّد على الاستضعاف، وتربٍّ طويل على خفض الرأس.
حتى الخطاب غير الرسمي في الخليج اليوم – الشعبي، الإعلامي، الرقمي – صار أكثر تطرفًا من الصهيونية الكلاسيكية نفسها، لأنه يجمع بين خيانة الداخل، وتبرير الخارج، ويقدّم كأنه حكمة سياسية.
هذه الحالة تجعل الحديث عن «التواطؤ» أيسر، لأنه لم يعد متخفيًا خلف ادعاءات «المغلوبية»، بل صار يطرح نفسه كخيار ناعم، جماهيري، مبرر بحجج القوة، وحتمية العالم الجديد، ووهم الواقعية السياسية.
ولذلك، فإننا إذ نبدأ هذا الحديث، لا نسأل فقط عن الصمت، بل عن ذلك الشكل الجديد من الخيانة:
الخيانة المُبتسمة، التي تُبَثّ بلهجة رخيمة، وتُقدَّم على أنها وعي، بينما هي في الحقيقة سقوطٌ كامل في حضن القاتل – خارجيًا كان أو محليًا.### القسم الثاني: التواطؤ الذي نرتكبه ضد أنفسنا
ربما لم يعد من الدقة أن نصف ما نعيشه اليوم بالصمت، فالصمت موقف سلبي على الأقل، أما ما يحدث في الواقع فهو تواطؤ فعلي، صريح، مُغلف بالنعومة، يُبرَّر على استحياء، لكنه سيجرّ علينا وبالًا لا يُحتمل. وسندفع ثمنه أخلاقيًا، لا حين تُستباح أرض أو تُباد جماعة، بل حين نكتشف أننا لم نكن ضحايا كما نحب أن نعتقد، بل شركاء في الظلم، شركاء بالصمت، شركاء بالخوف، شركاء بالانشغال عن الدم بما لا يليق.
المغلوب على أمره لا يُهزم مرة واحدة، بل يُهزم كل يوم يقبل فيه بأن يُعرّف نفسه على أنه مغلوب. كل يوم يصمت فيه عن البشاعة، ويعيش التنازل كعرف، والخضوع كنظام حياة. في المجتمعات التي تُربَّى على الخوف، يصبح القهر جزءًا من الهوية، يُربّى عليه الفرد كما يُربّى على اللغة والعلم والنشيد الوطني.
نعم، التاريخ قاسٍ، والأنظمة بطّاشة، والنوافذ مغلقة. لكن في أعتى اللحظات، تبقى النفس قادرة على التمييز، والإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره. هو يعرف متى خضع، ومتى سكت، ومتى انكسر وهو يعلم أنه لا يليق به أن ينكسر.
ولهذا فإن أثر هذا التواطؤ أعمق من أن يُمحى، لأنه لا يُخجلنا أمام الآخرين فقط، بل أمام أنفسنا. لا يترك لنا حتى عزاء البراءة، بل يجعلنا نعيش الهزيمة بوعي خافت، ملوّث بالخوف، مثقل بالشعور بأننا كنّا قادرين على شيء، لكننا لم نفعله.
وحين تأتي اللحظة التي تُروى فيها الحكايات، لن نجد لأنفسنا موضعًا في صفحات الشرف. لن نُذكر كضحايا، بل كأمثلة في الجبن. أول من بطش بنفسه، وأول من تنازل عن كرامته، وأول من أقنع نفسه أن السحق قدَر، فسلّم به حتى نسي أنه كان يومًا إنسانًا.
وهذا التواطؤ، بما يحمله من تبريرات، ليس بلا كلفة. بل هو يمزق صورة الإنسان الخليجي، ويفضحها أمام العالم، في لحظة صار فيها الوقوف مع فلسطين اختبارًا كونيًا للضمير. ومع كل صمت جديد، تتآكل تلك الصورة، وتتساقط عنها بقايا الهيبة والاحترام.
لقد بدأت الصورة الأخلاقية للخليجي تتدهور علنًا، وعلى أكثر من مستوى. أولًا، تراجع الاحترام الرمزي: الغرب الذي انتفض ضد الإبادة، بدأ يرى الخليجي كمن لا موقف له، لا لأنه ممنوع، بل لأنه لا يريد أن يرى. ثانيًا، الاشتباه الأخلاقي: لم يعد الخليجي مجرد ساكت، بل يُنظر إليه كمتواطئ ناعم، يتناول طعامه في مطعم فاخر، بينما تُدفن الطفولة تحت الركام. ثالثًا، العزل الوجداني: في الخطاب العربي الشعبي، صار الخليجي غائبًا، يُستثنى من الحديث، كأنه خارج خريطة الكرامة. رابعًا، المعاملة الرمزية: في مطارات وأسواق ومدن، يُنظر إليه أحيانًا بعين الريبة، لا لأنه مجرم، بل لأنه بدا كمن يشبه القاتل في بروده. خامسًا، فقدان التعاطف المستقبلي: حين يسقط، لن يُبكى عليه، بل يُقال: كان صامتًا حين سال الدم، فليذُق وحدته.
وهكذا، فإن من يقبل أن يُعرّف نفسه كمغلوب على أمره، لا ينجو من السحل، بل يبدأه بنفسه. سحلٌ بطيء، يبدأ من الصورة، ويمتد إلى الجسد، ويمحو كل ما يمكن أن يمنحه مقام الضحية. لأنه حين تأتي لحظة العدالة، لا يُنظر إلى من صمت على أنه بريء، بل على أنه شريك، حتى إن لم يحمل السلاح، لأنه تخلّى عن آخر سلاح يمتلكه: الكلمة.
وتبقى المفارقة الأقسى، أن الذل لا يُوزّع بالتساوي. إذا كان للجلاد قوة تجذب إليه، فإن التابع الذليل، في عين العالم، أحقر من الجلاد نفسه. الجلاد – على كل ما فيه من عنف – يمتلك شيئًا من الإرادة، أما الذليل فيتبرّع بخضوعه، ويتزيّن بتبعيته، ويتقوّى بضعفه، كأنه يفتخر أنه لا يملك شيئًا إلا الخوف.
ولهذا، فإن العالم لا يحتقر القاتل وحده، بل يزدري أكثر من تماهى معه، من أعاد إنتاج منطقه دون أن يحمل أدواته، من بارك دمه وهو مبتسم، من دافع عنه كأن المذبحة حُجة على العقل لا وصمة على الجبين.
الجلاد اختار طريقه
أما التابع، فقد تخلّى عن نفسه قبل أن يتخلّى عن موقفه
وتلك، يا صاحبي، دركة لا يُبررها عجز، ولا يُعذر فيها خوف.
المغلوب على أمره ليس بريئًا
حين يُسأل الإنسان الخليجي عن صمته، عن خفوت صوته في زمنٍ يرتفع فيه الصراخ من أقصى الأرض إلى أقصاها، لا يتردد كثيرون في تقديم الجواب المعلّب: نحن مغلوبون على أمرنا. يبدو هذا الجواب في ظاهره اعترافًا شجاعًا بالضعف، لكنه في العمق يُستخدم لا لوصف الحال، بل للهروب من المسؤولية. يتحول العجز إلى درع أخلاقي، وكأن مجرد الإقرار بالانكسار يعفي من تبعاته، وكأن قولنا إننا ضعفاء، يُسقط عنّا واجب أن نكون بشراً.
والمشكلة أن هذا التبرير لا يُقال في لحظة مراجعة، بل يُستعمل كأداة مريحة لمحو الذنب، لتخدير الضمير، ولتمديد عمر الخضوع. فنحن لا نقول "نحن مغلوبون" لنواجه هشاشتنا، بل لنبرّر قبولنا بها، ولنبرّر كل شيء يتبع ذلك القبول من صمت، ومن تواطؤ، ومن تبنٍ ضمني أو صريح لمنطق القوّة، ولو كان هذا المنطق قاتلًا.
المغلوب على أمره لا يُدان لأنه لم يقد ثورة، ولا لأنه لم يجرؤ على المواجهة، بل لأنه في لحظة الحقيقة، في تلك اللحظة التي لا تُخطئها العين ولا القلب، قرر أن ينظر بعيدًا. لم يغضب، لم يرتبك، لم يتألم، بل تصرّف وكأن الدم المسفوك لا يعنيه. صوته لم يخنه، لكنه اختار أن يملأه بما يُخدّر لا بما يُثير. امتلأ بالاحتفالات والتهاني والأغاني، لا بالإنكار ولا بالتساؤل، وكأن العجز صار لا مجرد حالة مؤقتة، بل طقسًا جماعيًا يتكرّس، ويتحوّل إلى نمط حياة.
وهنا تنقلب الموازين الأخلاقية. لأن البراءة لم تعد تُقاس بالموقع، بل بالموقف. لم يعد كافيًا أن تكون خارج آلة القتل لتُعدّ بريئًا، بل يجب أن تكون خارج صمتها، خارج غفلتها، خارج منطقها كله. لأن كل لحظة صمت اقترنت بالراحة، وكل لحظة حياد خُلطت بالترف، وكل يوم مرّ دون وجع، كان مشاركة صامتة في الجريمة، حتى وإن لم يُرفع فيه سلاح، ولم يُرم فيه حجر.
والأخطر أن هذا الخطاب، خطاب المغلوبية، لم يبقَ مجرد تبرير، بل تحوّل إلى هوية. أصبح بعض الناس يعتنقونه كما يعتنق طائفة، كما يُردد شعارًا سياسيًا أو مذهبًا روحيًا، يُستخدم لنزع الواجب من الجذر، وكأن الإنسان حين يعجز، يفقد التزامه الأخلاقي، ويتحول إلى ظلّ لا يُسأل عن شيء، ولا يُطلب منه شيء.
لكن الحياة لا تعترف بهذه الأعذار. التاريخ لا يُقلب صفحاته رحمة بالصامتين، بل يسجلهم بدقة، ويسمّيهم بأسمائهم. لن يقول إنهم لم يكونوا طغاة، بل سيقول إنهم كانوا شهود زور، وإن الصمت يوم يُطلب منك أن تقول، لا يُغفر، بل يُلاحقك كخيانة صامتة، كعارٍ لا يُمحى.
ومن يعتاد التبرير، لا ينجو منه. يسقط أول مرة وهو يعلم، ثم يسقط كل مرة دون أن يشعر، حتى يُصبح التبرير هو لغته الوحيدة، وهوية وجوده، وتفسيره لكل ما يرى. يبتسم لنفسه، ويقول في صمت قلبه: أنا مغلوب على أمري، في حين أنه لا يدرك أنه في كل مرة يقولها، إنما يُسقط نفسه من جديد، لا من يد ظالم، بل من قلبه هو.
وهذه هي الدركة الحقيقية. أننا نعيش اليوم واحدة من أكثر لحظات القهر والانكشاف فداحة، ليس لأن من يحكمنا طاغية، ولا لأنه جبّار شديد البأس، بل لأنه جاء من نسل أولئك، لكنه لا يحمل من سطوتهم إلا قشورًا، ولا من دهائهم إلا العُري. نحن لا نُسحق تحت أقدام الأقوياء، بل نُجلد بألسنة الحمقى، ونُهان على أيدي من لا يملكون حتى هيبة القمع، بل يملكون فقط خواء السلطة، ووقاحة التسلية.
وهكذا تكتمل دائرة المهزلة: أن يُقهر الإنسان لا من عدوه، بل من تابع عدوه، وأن يُبرر العجز لا لأن القهر عظيم، بل لأننا ببساطة، نسينا أننا كنا أحرارًا، يوم قررنا أن نُولد خائفين.
ولأن من بلاء الشعوب المغلوبة على أمرها أن يتحوّل الذل إلى سِمة، والخضوع إلى طبع، فإن من المظاهر العجيبة التي تفشّت حتى غدت مألوفة، أن الخليجي – أو صورة الإنسان الخليجي كما ترسخت في أذهان كثير من الجيران – بات شخصية مثيرة للنفور، لا فقط لما يقوله أو يفعله، بل لما يُجسده من تناقض: فهو من جهة ينكر أن له علاقة بالمذابح والمجازر، لكنه من جهة أخرى، يرتبط بها – لا على نحو عام مجرد – بل على نحو خاص ومعقّد، لأنه اختار أن يصمت في اللحظة التي كان عليه أن يتكلم، أو أن ينسحب حين كان عليه أن يقف.
الأدهى أن بعض الخليجيين لا يكتفي بإنكار علاقته بما يجري، بل يتظاهر بالزهد في العروبة ذاتها، متوهمًا أنه بات جزءًا من نادٍ أعلى، من نادي الأقوياء، من مجموعة العشرين، أو من خريطة "العالم المتقدم". وما لا يدركه، أن هذا الوهم لا يُقابَل بالإعجاب، بل بالاشمئزاز. فالمجتمعات الأوروبية، التي بدأت تشهد يقظة ضمير حقيقية، مراجعةً أخلاقية بأثر رجعي لموقفها من إسرائيل، لا تجد في خذلان الخليجيين إلا فرصة لتخفيف عبء تورطها هي. تبدأ في نقل عبء الذنب إلى هؤلاء الذين لم يخذلوا فقط، بل احتفلوا بالخيانة.
في ساحات التظاهر، وفي مقالات الرأي، وفي همسات وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ يظهر سؤال جديد، لا يزال في طور التكوّن، لكنه يتجه لأن يصير مزاجًا ثقافيًا: لماذا نلوم أنفسنا على دعمنا لإسرائيل، إذا كان بعض العرب أنفسهم – وعلى رأسهم بعض الخليجيين – لا يشعرون بأي غضب، بل ويتماهَون مع القاتل؟
والمفارقة القاتلة، أن أكثر من يحتقر هؤلاء ليس الغربيين فقط، بل الإسرائيليون أنفسهم. فالصهاينة – رغم كل وقاحتهم – لا يخفون نظرتهم الدونية إلى أولئك الذين يمدّون إليهم يدًا وهم يعلمون أنهم يُذبحون باسمها. ولذلك، لم يعد غريبًا أن تجد كراهية الخليجي في الغرب تنبع من منطق تلقائي، لا يحتاج إلى تحريض. فحين يُضاف إلى الذل استعلاء، وإلى الخيانة ادّعاء بالسيادة، تصبح الكراهية تجاهه جزءًا من التطهّر الأخلاقي، ولو كانت ظالمة، فإنها مفهومة في منطق النفور البشري من كل ما هو دنئ.
الطغاة وعشق أمريكا – منطق الحقير حين يعشق من يهينه
لا تكشف المقارنات بين اللحظات السياسية فقط حجم التحوّل، بل عمق الانحدار. حين زار ترامب السعودية في المرة الأولى، لم يكن مجرد رئيس أمريكي يؤدي زيارة رسمية، بل كان نجمًا صاعدًا في سماء الهيمنة الغربية، زعيمًا يتصرف بثقة نرجسية، ويتحدّث كمن يملك مفاتيح العالم. جاء يومها وهو في ذروة صلفه، لم يُختبر بعد في أزمات الداخل، ولا واجه انكشافاته أمام الخارج. ومع ذلك، لم يُقابل بتحفّظ، بل فُرشت له الأرض على اتساعها، واجتمع له قادة ما يُسمّى بالعالم الإسلامي، لا ليُفاوضوه، بل ليُظهروا له الطاعة، ويثبتوا له أن الهيمنة لا تزال تعمل.
يومها لم تكن روسيا قد غزت أوكرانيا، ولم تكن الصين قد كشفت بعد عورات السوق الأمريكية، ولم تكن أوروبا قد شعرت بطعناتها من حليفها عبر الأطلسي، ولم يكن الداخل الأمريكي قد بدأ بالتآكل السياسي العميق الذي نراه اليوم. حتى الهجوم الشهير على منشآت أرامكو في بقيق، ذلك الحدث الذي عطّل نصف الإنتاج النفطي للسعودية، لم يستدعِ من ترامب أكثر من الصمت. لم يفعل شيئًا، لم يهدد أحدًا، لم يتصرّف كزعيم حليف. اكتفى بالنظر من بعيد، وكأن ما جرى لم يمسّ ما يُفترض أنه شريان استراتيجي للمصالح الأمريكية نفسها.
وهنا يجب التوقّف عند حقيقة صادمة: الهجوم على بقيق لم يكن هجومًا على السعودية فحسب، بل على الولايات المتحدة ذاتها، لأن تلك المنشآت لم تكن فقط مصدرًا لثروات الخليج، بل جزءًا من شبكة الهيمنة الأمريكية على أسواق الطاقة العالمية. ومع ذلك، لم تتحرّك أمريكا، لا لأن الهجوم لا يعنيها، بل لأنّها في العمق لم تعد ترى في الخليج شريكًا يستحق الدفاع عنه، بل مخزونًا يمكن استبداله، وتحريكه وقت الحاجة، والتغاضي عن خسائره متى استلزم الأمر.
ومع ذلك، ها هو ترامب يعود مجددًا. لا كرمز قوة، بل كشبح سياسي مُتعب، مثقل بفضائحه، منبوذ من بعض أركان نظامه، عاجز عن لملمة تناقضاته الداخلية، وأكثر انكشافًا من أي وقت مضى. يعود وقد أُهين من الإعلام، ومن القضاء، ومن المجتمع السياسي، لكنه لا يزال يجد من يستقبله في الخليج كأنه الملاذ الأخير، كأنهم لم يتعلموا شيئًا من خذلانه الأول، وكأن انحداره لا يعنينا، ما دام هو لا يزال أقرب إلى صورة السيّد، ولو كانت تلك الصورة مكسورة ومشوّهة.
ما يدفع هؤلاء الحكام للارتماء في حضن أمريكا، لا ينبع من تحليل استراتيجي راجح، بل من خوف وجودي أصيل. هم لا يرون في العلاقة مع واشنطن تحالفًا بين دول، بل يراهنون على أن المصالح الأمريكية في المنطقة – النفط، الاستثمارات، التسلّح، الملفات الأمنية – ستبقيهم على قيد العرش. لكن ما لا يفهمونه، أو يرفضون رؤيته، هو أن أمريكا تغيّرت، وأن الإدارات تتخلّى عن حلفائها عندما تصبح كلفة الإبقاء عليهم أكبر من منافعهم، وأن العالم يتغيّر من حولهم، بينما هم لا يزالون يراهنون على السيد القديم، كأن التاريخ لا يمضي، وكأن الشعوب لا تنتبه.
الأدهى من ذلك أن بعض هذه الأنظمة لا تكتفي بالارتماء في أحضان واشنطن، بل تمضي إلى تل أبيب، وتعرض نفسها كشريك أوفى، وأكثر استقرارًا، وأقلّ إحراجًا. الإمارات تقود هذا الاتجاه بوضوح، وقد تجاوزت التطبيع إلى التوأمة الاستراتيجية، فهي اليوم حليف حقيقي لليمين الإسرائيلي، حاضن أوروبي للتيارات المعادية للإسلام، ومموّل غير معلن لمشاريع تُعاد بها صياغة الشرق الأوسط خارج أي منطق للعدالة أو الحقوق. بل إن هناك تقارير متداولة تفيد أن الملك سلمان نفسه كان من بين المموّلين لحملة نتنياهو الانتخابية، وإن صحّت، فإنها تكشف ليس فقط عن خيار سياسي، بل عن سقطة أخلاقية مكتملة الأركان، حيث يصبح الحاكم العربي شريكًا ماليًا لرأس آلة القتل.
ومع أن إسرائيل تعاني الآن من أوسع موجة سحب شرعية في تاريخها، وتُحاصر في الجامعات، ويُلعن قادتها في برلمانات الغرب، ويُكشف وجهها في كل حيّ، إلا أن بعض الحكومات الخليجية، لا تزال تزداد تعلقًا بها، كأن إسرائيل تمنحهم في لحظة سقوطها ما لم يمنحه أحد في صعودها: الشعور بأنهم في الجانب الآمن من التاريخ، حتى ولو كان ذلك التاريخ يُكتب بالدم.
هنا تظهر المفارقة الكبرى. فالموقف السويّ، لو وُجد، كان سيقول إن هذه ليست لحظة الارتماء، بل لحظة المراجعة، لا وقت الولاء، بل وقت الفكاك، لا زمن التبعية، بل فرصة المصالحة مع الذات والشعب والتاريخ. لكن الطغاة لا يتحركون بالعقل، بل بغريزة البقاء. وكلما رأوا سيدهم يضعف، ازدادوا تمسكًا به، لا لأنهم يظنّون أنه سيحميهم، بل لأنهم يعرفون أن الطريق الآخر يقودهم إلى ما لا يريدون رؤيته: المصالحة مع شعوبهم.
مصالحة لو جرت، لن تأخذ منهم امتيازات تذكر. إذ ستبقيهم في السلطة، وليس بالضروره ان تكون سلطتهم رمزيه لانهم يستطيعون ان يتماهوا مع الشعوب؛ التي ربما تعود وتنصبهم طغاة عليها من جديد، من يعلم؟!
الاكيد انهم سيعيشون ويعيش أبناءهم مستقبلًا مقبولًا، وغالبا في السلطة، وهذا أرجى لللسلامة، لكن
يُضِلُّ اللهُ الظالمين. صحيح...```